انتصار ود مدني- تحول استراتيجي يعزز وحدة السودان الوطني

في منعطف تاريخي حاسم، حقق الجيش السوداني إنجازًا عسكريًا باهرًا على قوات الدعم السريع يوم السبت الموافق 11 يناير/كانون الثاني 2025، وذلك بفرض سيطرته الكاملة على مدينة ود مدني، والتي تُعد ثاني أكبر المدن السودانية وعاصمة لولاية الجزيرة بوسط البلاد، فضلاً عن قربها الاستراتيجي من العاصمة الخرطوم.
هذا الانتصار العسكري لم يكن مجرد فوز ميداني فحسب، بل يمثل تحولًا استراتيجيًا بالغ الأهمية في مسار الصراع المحتدم، ويُبشّر بانتهاء الحرب الوشيك لصالح الحفاظ على الدولة الوطنية. كما أنه يُعد برهانًا قاطعًا على كفاءة وقدرة الجيش السوداني على استعادة زمام المبادرة والتصدي لواحدة من أخطر التحديات التي تهدد وحدة واستقرار البلاد.
مدينة ود مدني، بموقعها الجغرافي المتميز وأهميتها الاقتصادية والاجتماعية الكبيرة، ليست مجرد مدينة عادية، بل هي رمز للصمود والإرادة الوطنية. لذا، فإن تحريرها من قبضة القوات المتمردة يُعد إنجازًا ذا أبعاد عميقة تتجاوز حدود المعركة، وتؤثر بشكل كبير على ميزان القوى على المستوى الوطني.
لم يكن الفوز الذي حققه الجيش في هذه المدينة الاستراتيجية مجرد حدث عسكري منعزل، بل صاحبه ابتهاج عفوي عارم اجتاح مختلف المدن السودانية. فقد خرجت حشود غفيرة من الشعب السوداني للتعبير عن فرحتها الغامرة بهذا الإنجاز، مما يعكس بجلاء التفافًا شعبيًا واسعًا حول الجيش باعتباره الحامي الأمين للوطن ووحدته.
تشير أحدث الإحصائيات المتعلقة بالحرب الدائرة في السودان إلى أن التقديرات الخاصة بأعداد الضحايا المدنيين منذ اندلاع هذا الصراع المؤسف في شهر أبريل/نيسان من عام 2023، تصل إلى ما يقارب 150 ألف قتيل، وذلك وفقًا لتقديرات منظمة "جينوسايد ووتش". وفي سياق متصل، أفادت المنظمة الدولية للهجرة بأن هذا النزاع المرير قد أدى إلى نزوح ما يقارب 10.7 مليون شخص، منهم حوالي 9 ملايين نازح داخليًا، في حين فرّ ما يقارب 1.7 مليون شخص إلى الدول المجاورة. كما أدت هذه الحرب اللعينة إلى خسائر اقتصادية فادحة، بما في ذلك انهيار شبه كامل لاقتصاد البلاد؛ نتيجة لتوقف عجلة الإنتاج والخدمات.
الجيش.. التاريخ والدور الوطني
لقد ظلّ الجيش السوداني، منذ تأسيسه في عام 1925، يمثل إحدى أهم الركائز الأساسية للدولة الوطنية الحديثة في السودان، وهو تجسيد للقيم العليا للوحدة والسيادة الوطنية. كما قام بأدوار جوهرية في حفظ السلام والاستقرار، وذلك من خلال مشاركاته الفعالة ضمن قوات الردع العربية في لبنان، الأمر الذي يؤكد مكانته المرموقة كواحد من الجيوش الأفريقية والعربية ذات السمعة الطيبة. هذه الخصائص المميزة جعلت منه ليس فقط حاميًا للحدود، بل أيضًا حارسًا للمشروع الوطني السوداني في أوقات المحن.
في غمرة الصراعات السياسية التي أعقبت سقوط نظام البشير في عام 2019، واجه الجيش السوداني تحديات جسيمة غير مسبوقة، تجسدت في محاولات بعض الأطراف المدنية للتدخل السافر في شؤونه الداخلية، بدءًا من قرارات الإعفاء والترقيات، ووصولًا إلى رفع شعارات تحريضية بغيضة ضد المؤسسة العسكرية خلال المظاهرات والاحتجاجات.
هذه التدخلات لم تكن فقط انتهاكًا صارخًا للوثيقة الدستورية التي منحت الجيش استقلالية تامة في إدارة شؤونه، بل كانت أيضًا تهديدًا مباشرًا لإحدى أهم دعائم الوحدة الوطنية. ولضمان مستقبل أكثر استقرارًا وازدهارًا، لا بد من احترام استقلالية الجيش السوداني وتجنيبه صراعات القوى السياسية، مع العمل الدؤوب على تحقيق شراكة حقيقية وفاعلة بين كافة المكونات الوطنية لبناء سودان قوي وموحد.
الجيش والدعم السريع.. صراع المصير
يتضح جليًا الفارق الشاسع بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في العديد من الجوانب، بدءًا من العقيدة القتالية الراسخة، ووصولًا إلى الهيكل التنظيمي المحكم، وهو ما يفسر بجلاء تماسك الجيش وقدرته الفائقة على الصمود والثبات، في مقابل الطبيعة الهشة والانتهازية لقوات الدعم السريع.
فالجيش السوداني يعتمد على عقيدة قتالية وطنية متجذرة بقوة في تاريخ طويل من الدفاع المستميت عن سيادة السودان ووحدته الترابية. هذه العقيدة الراسخة تقوم على الولاء المطلق للدولة ومؤسساتها الشرعية، مما يضمن التزام الجنود البواسل بالمهام العسكرية المنوطة بهم وفق قيم الانضباط العسكري والتضحية والفداء.
لقد أثبت الجيش السوداني، بما لا يدع مجالًا للشك، قدرته الفائقة على القتال ببسالة في ظروف شديدة التعقيد والصعوبة، مستمدًا قوته وعزيمته من إرثه الوطني العريق، وتقاليده العسكرية الصارمة التي تعزز روح الفريق الواحد والانتماء للمؤسسة العسكرية.
على النقيض تمامًا، تفتقر قوات الدعم السريع إلى عقيدة قتالية راسخة وثابتة. إذ تأسست في الأساس كقوة غير نظامية تعتمد بشكل أساسي على الولاء الشخصي والارتباط القبلي الضيق، وليس الولاء للوطن. وتشتهر العقيدة القتالية لقوات الدعم السريع بكونها عقيدة انتهازية بحتة، حيث تعتمد بشكل كبير على الغنائم والمكاسب المادية، واستغلال حالة الفوضى والاضطرابات، والتكتيكات غير التقليدية التي تتسم في أغلب الأحيان بالعنف المفرط والوحشية ضد المدنيين الأبرياء. هذه الطبيعة المتقلبة تجعل قوات الدعم السريع تفتقر إلى عنصر الاستدامة في القتال أمام قوة منظمة وعريقة كالجيش السوداني.
يتمتع الجيش السوداني بهيكل تنظيمي متين وقوي، يقوم على التراتبية الواضحة التي تحدد بدقة الأدوار والمسؤوليات داخل المؤسسة العسكرية. ويتم إدارة هذا الهيكل التنظيمي وفقًا لنظم صارمة في التدريب والتخطيط الاستراتيجي، مع الالتزام الكامل بقوانين الحرب الدولية وأعرافها. هذا الانضباط الشديد يجعل الجيش أكثر قدرة على التكيف مع مختلف التحديات والمخاطر، كما يعزز من استمرارية العمليات العسكرية حتى في أحلك الظروف وأصعبها.
في المقابل، تفتقر قوات الدعم السريع إلى البنية التنظيمية المتماسكة والقوية. فهي تعتمد بشكل كبير على هيكل هرمي مبني بشكل كامل حول قائد واحد، مما يجعلها عرضة للتفكك والانهيار بمجرد غياب هذا القائد أو سقوطه. وتعمل هذه القوات وفق آليات غير رسمية وغير منضبطة، مما يؤدي إلى ضعف التنسيق الداخلي وانعدام التخطيط طويل الأمد. إضافة إلى ذلك، فإن اعتمادها على تجنيد أفراد من خلفيات غير عسكرية، وغالبًا ما يكون ذلك بدافع الحاجة المادية أو الولاء القبلي، يضعف بشكل كبير من جاهزيتها وقدرتها على تنفيذ عمليات عسكرية معقدة.
يخضع أفراد الجيش السوداني لتدريبات متقدمة وفقًا لأحدث المعايير العسكرية الدولية، مع توفير أسلحة نوعية متطورة تناسب مختلف العمليات القتالية المتعددة. هذا التدريب المكثف والمتواصل يخلق أفرادًا يتمتعون بكفاءة عالية في استخدام الأسلحة الحديثة والتعامل بفعالية مع المواقف القتالية المتنوعة.
بينما تفتقر قوات الدعم السريع إلى التدريب المنهجي والاحترافي، وتعتمد في المقابل على التجنيد العشوائي الذي غالبًا لا يراعي معايير الكفاءة والجدارة. وتسليحها، على الرغم من أنه متنوع ويشمل أسلحة حديثة، إلا أنه يُستخدم في الغالب بشكل غير منظم أو مدروس، مما يجعلها غير فعالة في العمليات العسكرية المنظمة.
يعمل الجيش السوداني ضمن إطار أهداف وطنية واضحة ومحددة، تشمل الدفاع عن حدود البلاد وحماية سيادتها واستقلالها واستقرارها. هذا الالتزام الراسخ يجعل الجيش يتمتع بشرعية شعبية واسعة تدعم جهوده العسكرية. بينما تتمحور أهداف قوات الدعم السريع حول تحقيق مصالح قيادتها والسيطرة على الموارد والمناطق الاستراتيجية. هذا الغياب للارتباط بمشروع وطني جامع يفقدها أي شرعية شعبية، ويضعها في مواجهة مباشرة مع المجتمع السوداني.
البعد الإستراتيجي للانتصار
جاءت سيطرة الجيش السوداني على مدينة ود مدني نتيجة لتخطيط استراتيجي محكم، قائم على فهم دقيق لطبيعة الأرض، وتوزيع قوات الدعم السريع، مما مكنه من استغلال نقاط ضعفها بشكل فعال.
كما لعبت المقاومة الشعبية من سكان المدينة دورًا حيويًا في نجاح العمليات العسكرية، حيث قدم الأهالي معلومات استخباراتية قيمة وسهلوا التحركات العسكرية، الأمر الذي عزز من قدرة الجيش على التقدم والسيطرة.
إلى جانب ذلك، أظهر الجيش تفوقًا ملحوظًا في التنظيم والتنسيق بين وحداته المختلفة، وهو ما افتقرت إليه قوات الدعم السريع التي بدت مرهقة ومشتتة؛ بسبب المعارك الممتدة. ساعدت هذه الفجوة التنظيمية الجيش في إحكام سيطرته واستغلال الإرهاق النفسي والمعنوي الذي تعاني منه قوات الدعم السريع بعد سلسلة من الهزائم الميدانية المتتالية.
تبرز أهمية مدينة ود مدني من موقعها الجغرافي المتميز في قلب السودان، حيث تمثل حلقة وصل حيوية بين الخرطوم وبقية ولايات البلاد، مما يجعل السيطرة عليها بمثابة تأمين لخطوط الإمداد الحيوية، وممر استراتيجي نحو مناطق الجنوب والشرق.
تتمتع المدينة بثقل اقتصادي كبير، كونها عاصمة ولاية الجزيرة، ومركزًا لمشروع الجزيرة الزراعي الضخم، ما يتيح للجيش تأمين الموارد الغذائية والمائية والاستفادة من البنية التحتية المتوفرة، مثل شبكة الطرق الرئيسية لتمركز القوات وإعادة توزيعها نحو جبهات أخرى.
تكتسب ود مدني كذلك رمزية سياسية واجتماعية كبيرة، نظرًا لثقلها السكاني ودورها التاريخي البارز، ما يضيف بعدًا معنويًا لسيطرة الجيش عليها، ويظهر قدرته على استعادة المدن الكبرى من قبضة الميليشيات المتمردة.
تهيئ هذه السيطرة المدينة لتكون قاعدة انطلاق نحو مناطق استراتيجية أخرى، مثل القضارف وسنار، مما يعزز التوسع العسكري، ويفرض مزيدًا من الحصار على قوات الدعم السريع، في خطوة قد تكون حاسمة لتأمين كامل البلاد.
قراءة مظاهر الفرح الشعبي
فور دخول طلائع الجيش السوداني إلى مدينة ود مدني صباح يوم السبت، اندلعت احتفالات عفوية عارمة في مختلف المدن السودانية، حيث عمت مشاعر الفرح والفخر الأجواء، لتتحول الشوارع والساحات إلى ميادين للاحتفاء بهذا الإنجاز الوطني العظيم.
تعالت الأناشيد الوطنية والهتافات التي تشيد بانتصارات الجيش وتحيي صموده الأسطوري، بينما ارتفعت الأعلام السودانية خفاقة لتزين الأحياء والساحات، في مشهد مهيب يعكس وحدة الشعب السوداني والتفافه القوي حول مؤسسته العسكرية، باعتبارها رمزًا للوطنية والكرامة.
لم تكن هذه الاحتفالات مجرد تعبير عن فرحة عابرة، بل كانت رسالة شعبية واضحة تجسد ثقة المجتمع المطلقة في الجيش، كحامٍ أمين للسيادة الوطنية، ورفضًا قاطعًا لوجود قوات الدعم السريع التي باتت معزولة اجتماعيًا بعد الجرائم البشعة والانتهاكات الصارخة التي ارتكبتها بحق الشعب السوداني.
لقد وجد الشعب السوداني، الذي عانى من ويلات الحرب والدمار والخراب، في انتصارات الجيش بارقة أمل متوهجة لاستعادة الأمن والاستقرار المفقودين. إن الهتافات والشعارات التي رددها المحتفلون بحماس، عبرت عن وحدة الموقف الشعبي، إذ شددت على أن الجيش يمثل إرادة الوطن بأكمله، وليس مجرد مؤسسة عسكرية.
وسط أصوات الطبول والتصفيق الحاد، بدت رسالة الشعب واضحة وجلية: السودان باقٍ بصمود جيشه والتفاف أبنائه حول قيم الوحدة والتكاتف في وجه كل من يهدد أمنه وسلامته. وتمثل هذه الاحتفالات مؤشرات داخلية وخارجية واضحة:
- داخليًا: توحيد الصف الوطني عبر إحياء الروح الوطنية المشتركة بين جميع السودانيين. والتأكيد على أن النصر الذي تحقق في ود مدني ليس نصرًا عسكريًا فحسب، بل هو أيضًا انتصار للأمل في مستقبل أفضل ومشرق. كما تعكس هذه الاحتفالات أن الشعب السوداني مستعد لتحمل جميع المصاعب والتضحيات دعمًا للجيش، حتى تحقيق الحسم الكامل وإنهاء هذا الصراع المرير.
- خارجيًا: تعتبر هذه الاحتفالات رسالة قوية وواضحة للعالم أجمع، مفادها أن الجيش السوداني يحظى بدعم شعبي واسع النطاق، مما يعزز من شرعيته أمام الأطراف الإقليمية والدولية. وهذا بدوره يزيد من احتمالات إعادة تقييم الأطراف الدولية لأدوار جميع الفاعلين في هذا الصراع الدائر.
تحديات ما بعد التحرير
على الرغم من الأهمية البالغة للانتصار الذي حققه الجيش السوداني في مدينة ود مدني، فإن المرحلة القادمة تحمل في طياتها تحديات جسيمة تتطلب التعامل معها بحذر وروية وحكمة.
من أبرز هذه التحديات، قدرة الجيش على الاحتفاظ بالمدينة وتأمينها بشكل كامل، في ظل التهديدات المستمرة التي قد تشكلها فلول قوات الدعم السريع، خاصة عبر اللجوء إلى تكتيكات الكر والفر. لذا، فإن تأمين المدينة يتطلب جهدًا عسكريًا مكثفًا ومتواصلًا، إلى جانب تعزيز ثقة السكان المحليين من خلال بسط الأمن وتوفير الحماية وإعادة الخدمات الأساسية التي تضررت جراء الصراع.
بالإضافة إلى التحديات الأمنية، تبرز الحاجة الملحة للتعامل الفوري مع الأوضاع الإنسانية المتدهورة التي خلفتها الحرب. فآلاف الأسر تعاني من النزوح والتشرد وفقدان سبل العيش، ما يستدعي جهدًا جماعيًا من الحكومة والمجتمع الدولي لتقديم المساعدات الإنسانية العاجلة، وإعادة تأهيل البنية التحتية المتهالكة التي دمرها الصراع. إن معالجة هذه القضايا الإنسانية الملحة تشكل خطوة أساسية في تعزيز استقرار المناطق المحررة، وكسب تأييد ودعم السكان المحليين.
لكن التحدي الأكبر يكمن في الانتقال السلس من الانتصار العسكري إلى بناء سلام دائم وشامل ومستدام. فالحرب مهما طالت وتفاقمت، لا يمكن أن تكون بديلًا للحلول السياسية الشاملة التي تضع نهاية جذرية لهذا الصراع المرير، وتعيد إلى السودان وحدته وسيادته واستقراره. يتحمل الجيش السوداني، بوصفه رمزًا للسيادة الوطنية، مسؤولية تاريخية في دعم المبادرات السياسية الجادة التي تسعى لتوحيد السودانيين وإنهاء الانقسامات والخلافات.
ختامًا، لا بد من دعوة جميع الأطراف المتنازعة إلى الانخراط الفوري في مسار سياسي حقيقي وبناء، ينهي هذا الصراع المسلح اللعين، ويؤسس لدولة مدنية ديمقراطية حديثة، تضمن السيادة والوحدة والاستقرار، وتخرج السودان من دوامة الحروب والصراعات، إلى آفاق جديدة من التنمية والازدهار والسلام. هذا الطموح النبيل لن يتحقق إلا بتكاتف جميع السودانيين، وإعلاء مصلحة الوطن فوق كل الاعتبارات الأخرى.